خالد بن الوليد في الشام
فلما سمع أبو بكر ذلك علم أن أبا عبيدة لين العريكة لا يصلح لقتال الروم وعول أن يكتب إلى خالد بن الوليد ليوليه على جيوش المسلمين وقتال الروم قال: واستشار المسلمين في ذلك فقالوا: الرأي ما تراه وكتب كتابًا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عتيق بن أبي قحافة إلى خالد بن الوليد سلام عليك: أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وإني قد وليتك على جيوش المسلمين وأمرتك بقتال الروم وأن تسارع إلى مرضاة الله عز وجل وقتال أعداء الله وكن ممن يجاهد في الله حق جهاده ثم كتب {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم}. [الصف: 10] الآية. وقد جعلتك الأمير على أبي عبيدة ومن معه.
وبعث الكتاب مع نجم بن مقدم الكناني فركب على مطيته وتوجه إلى العراق فرأى خالدًا رضي الله عنه قد أشرف على فتح القادسية فدفع إليه الكتاب فلما قرأه قال: السمع والطاعة لله ولخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتحل ليلًا وأخذ طريقة عن اليمين وكتب كتابًا إلى أبي عبيدة يخبره بعزله وبسيره إلى الشام وقد ولاني أبو بكر على جيوش المسلمين فلا تبرح من مكانك حتى أقدم عليك والسلام.
وبعث الكتاب مع وأما خالد فلما وصل إلى أرض السماوة قال: أيها الناس إن هذه الأرض لا تدخلونها إلا بالماء الكثير لأنها قليلة الماء ونحن في جيش عظيم والماء معكم قليل فكيف يكون الأمر فقال له رافع بن عميرة الطائي رضي الله عنه: أيها الأمير إني أشير عليك بما تصنع فقال: يا رافع أرشدك الله بما نصنع ووفقك الله مولانا جل وعلا للخير قال: فأخذ رافع ثلاثين جملًا وعطشها سبعة أيام ثم أوردها الماء فلما رويت حزم أفواهها ثم ركبوا المطايا وجنبوا الخيول وساروا فكانوا كلما نزلوا منزلًا اخذوا عشرة من الإبل يشقون بطونها ويأخذون ما يجدون من الماء في بطونها فيجعلونه في حياض الادم فإذا برد سقوه للخيل وأكلوا اللحم ولم يزالوا كذلك حتى تمت الإبل وفرغ الماء وقطعوا مرحلتين بلا ماء وأشرف خالد ومن معه على الهلاك.
فقال خالد لرافع بن عميرة: يا رافع قد أشرفنا على الهلاك والتلف أتعرف لنا ماء ننزل فيه.
قال الواقدي: وكان رافع رمدت عيناه.
فقال: أيها الأمير أتاني رمد كما ترى ولكن إذا أشرفتم على أرض سهلة فأعلموني.
قال: فلما أشرفوا عليها أعلموا رافعًا بذلك.
قال: فرفع طرف عمامته عن عينيه وسار على راحلته يضرب يمينًا وشمالًا والناس من ورائه إلى أن أقبل على شجرة من الأراك فكبر وكبر المسلمون ثم قال: احفروا هنا.
قال: فحفرت العرب وإذ الماء قد طلع كالبحر فنزل الناس عليه وشكروا الله تعالى وأثنوا عليه وعلى رافع خيرًا ثم وردوا الماء وسقوا خيلهم وإبلهم ثم جذوا في طلب من انقطع من المسلمين ومعهم القرب بالماء.
قال: فسقوهم فارتجعت قوتهم.
ثم لحقوا بالجيش وأراحوا أنفسهم ثم في ثاني يوم جدوا في المسير إلى أن بقي بينهم وبين أركة مرحلة واحدة فبينما هم كذلك إذ أشرفوا على حلة عامرة وأغنام وإبل قد سدت الفضاء والمستوي فأسرع المسلمون إلى الحلة وإذا براع يشرب الخمر وإلى جانبه رجل من العرب مشدود.
قال: فتبينه المسلمون وإذا هو عامر بن الطفيل الذي أرسله خالد.
قال: فأقبل خالد بن الوليد مسرعًا حتى وقف عليه فلما رآه تبسم وقال: يا ابن الطفيل كيف كان سبب أسرك.
قال عامر: أيها الأمير إني أشرفت على هؤلاء القوم في هذه الحلة وقد أصابني الحر والعطش فملت إلى هذا الوادي ليسقيني من اللبن فوجدته يشرب خمرًا.
فقلت له: يا عدو الله أتشرب الخمر وهي محرمة.
فقال لي: يا مولاي إنها ليست بخمر وإنما هي ماء زلال فأنزل كي تراه واستنشق ما في الجفنة فإن كان خمرًا فافعل ما بدا لك فلما سمعت كلامه أنخت المطية ونزلت عن كورها وجلست على ركبتي في الجفنة وإذا أنا بالعبد قد طلبني بعصا كانت إلى جانبه وضربني على رأسي فشجني شجة موضحة فانقلبت على جانبي فأسرع العبد إلي وشدني كتافًا وأوثقني رباط وقال لي: أظنك من أصحاب محمد بن عبد الله ولست أدعك من بين يدي أو يقدم سيدي من عند الملك.
فقلت له: ومن سيدك من العرب فقال: القداح بن وائلة وإني عند هذا العبد كلما شرب الخمر أحضرني كما ترى وألقى علي فضلة من كأسه.
قال: فلما سمع خالد بن الوليد كلام عامر بن الطفيل اشتد به الغضب ومال على العبد وضرب ضربة هائلة فجندله صريعًا ونهب المسلمون المال والأغنام والإبل وقلعوا الحلة بما فيها وأطلق عامرًا وقال له: أين رسالتي يا عامر فقال: يا مولاي هي في طرف عمامتي لم يعلم بها العبد.
فقال خالد: انطلق بها يا عامر على بركة الله تعالى.
قال: فركب عامر وسار يطلب الشام وارتحل خالد من موضعه ذلك فنزل بأركة وهي رأس الأمانة لمن يخرج من العراق وكانت الروم تمسك بها القوافل وكان عليها بطريق من قبل الملك فأغار خالد عليها وأخذ ما كان فيها وتحصن أهلها بحصنها وكان يسكن فيها حكيم من حكماء الروم وقد طالع الكتب القديمة والملاحم فلما رأى المسلمين وجيشهم انتقع لونه وقال: اقترب الوقت وحق ديني.
فقال أهل أركة: وكيف ذلك.
قال: إن عندي ملحمة فيها ذكر هؤلاء القوم وإن أول راية تشرف من خيلهم هي الراية المنصورة وقد دنا هلاك الروم فانظروا إن كانت رايتهم سوداء وأميرهم عريض اللحية طويل ضخم بعيد ما بين المنكبين واسع الهيكل في وجهه أثر جدري لهو صاحب جيشهم في الشام وعلى يديه يكون الفتح.
قال: فنظر القوم وإذا الراية على رأس خالد وهي كما قال حكيمهم.
قال: واجتمعوا على بطريقهم وقالوا له: أنت تعلم أن الحكيم سمعان لا ينطق إلا بالحق والحكمة وقد قال كذا وكذا.
والذي وصفه لنا رأيناه عيانًا ونرى من الرأي أن نعقد بيننا وبين العرب صلحًا ونأمن على حريمنا وأنفسنا.
فلما سمع ذلك بطريقهم قال: أخروني إلى غد لأرى من الرأي.